
#حكايا_عبدس
شـהــيد في حقل الذرة
74عام مرت على ضياع فلسطين وتحول قضية أهلها والمشردين إلى ملف غارق في غبار النسيان. وتحول حق العـ.ـودة والتعويض إلى أحجية وحلم بعيد المنال. ومن كان عند نزوح أهله عن الأرض والدار والعتبات طفلا صار الآن كهلا، لم يعد لديه سوى القليل من الوقت والأماني وذاكرة مسننة يستند إليها، ويتحسس من خلالها فلسطينه التاريخية، فيما يده الراجفة تربت مطمئنة مفتاحا عتيقا، مخبئا في أعماق فؤاده الجريح. وتقول له فيما يشبه الهذيان المكابر”إحنا لا بد يوم نعود”.
ماذا عن القرية التي لم يفرح فلاحوها بماء بئرهم الجديد؟
تقع قريتنا بجانب “مجدل غزة” و”الفالوجة”، أراضي القرية (مطوّبة) ولها أصحابها وكل فرد منا يعرف أراضيه في القرية، وكانت غزة هي مرجعيتنا في سندات الملكية والأوراق الرسمية. تقسم بلدتنا إلى منطقتين؛ الحارة الشرقية وكبيرها عبد العزيز أبو الدبر من كبار ملاكي القرية، والحارة الغربية وكبيرها رباح عبد العزيز، وهناك مناطق أخرى لكنها صغيرة جاء سكانها من قرى ومناطق خارج بلدتنا، ولا يوجد لهم أراض فيها. كل حارة في القرية كانت تتجمع في ديوانها جاعلة منه مركزا لضيافة الضيوف الوافدين، يذبحون لضيفانهم ويقدمون لهم واجب الضيافة المتعارف عليه في تلك الأيام، وكبار هذه المضافات السابق ذكرهم هم مخاتير لحارتهم.
قريتنا من القرى الصغيرة، ولم يكن فيها سوى مدرسة واحدة، وكان هناك كتّابا في البلدة للشيخ عبد الرحمن وهو من “السوافير الغربية”، وكان يتقاضى حسب الحالة مرة يأخذ حبوبا وقمحا، وتارة أخرى تراه يسامح الناس، وكل طفل له دور في إطعام الشيخ فقد كان يأخذ من الطفل بيضة مرة وعنبية مرة أخرى، لان البلدة تمتلئ بكروم العنب وكان الشيخ عبد الرحمن يعلم الأطفال القران الكريم، وحينما يختم الطفل المصحف قراءة حاضرة تقام له حفلة توزع بها الحلويات، لكن هذا الحفل على صخبه لا يشبه الاحتفالات الأخرى مثل حفل الطهور الذي تقيمه العائلات لأبنائها فقد كان يوضع الطفل على فرس، وهذا عند النساء اللواتي لا يوجد لديهن أكثر من طفل أو اثنين، وبعد ذلك تذبح الذبائح.
وقبل احتلال القرية بفترة وجيزة، حفر أهل البلدة بئرا ارتوازيا وصل عمقها إلى ستين مترا، وتدفقت منها مياه غزيرة أبهجت الفلاحين الذين ذبحوا ذبيحة كبيرة على باب البئر، وفي اللحظة التي وضعوا فيها موتورا على باب البئر لاستخراج المياه، دخل اليهود وأخرجونا من القرية. وكما قلت لك إن بلدتنا قرية بسيطة لم يكن بها مستوصفا صحيا، فقد كنا نذهب إلى المجدل حيث كان هناك أطباء عربا، وكان أهل البلد يذهبون إلى كبانية “نقبة” وكان اليهود يأتون إلى البلد ويشترون من الفلاحين روث بهائمهم، أستطيع أن أقول انه كانت علاقتنا مع الكبانيات جيدة، أما نساء القرية فكن كعادة أي قرية في البلاد يتعالجن ويلدن على يد العجوز خضرة، وتستمر في العناية بالطفل لمدة أسبوع، يا بني لقد كانت المرأة تعود ومعها وليدها، كنا نتعب أيام زمان، تعود المرأة ووليدها على رأسها في مساءات الحصيدة.
كيف تصفين رحلة التعب والمطاردة؟ وهل واجهت بلدتكم عملية احتلالها بمـöـاومة؟
دخل اليهود بلدتنا من جهة (الكامب) الإنجليزي غربا، أتى بعد ذلك الجيش المصري واستحكم تحت الشجر، وطوال الليل استمر تبادل إطلاق النار بين الفريقين، في نفس الليلة اندحر الجيش المصري، واخذ اليهود ينادون بأسماء عربية علينا، دخل اليهود الحارة الغربية (حارتنا) بمـöـاومة شديدة من الجيش المصري وأهل البلد، شاهدت بعيني ثلاثة ضباط مصريين ينالون الشـhـادة على ارض بلدتنا، إضافة إلى اثنين من شباب القرية؛ محمد ويوسف مصلح من الحارة الشرقية، خرجنا من بلدتنا إلى “كرتيا” التي مكثنا بها عشرين يوما ثم هوجمنا بعد ذلك ولثلاثة أيام كنا نخرج إلى “وادي قريقع” وهو بين كريتا والفالوجة، بينما الرجال في البلدة يقاومون مع الجيش المصري وبعد اليوم الثالث خرجنا إلى الفالوجة التي كانت محاطة بالألغام، وقد كان اليهود يطلقون النار على الفالوجة التي كان المحاصرون فيها يتبادلون النار مع عصابات المعتدين. ووقعنا في المنتصف بين نيران الـمـöـ.ـاومين من الفالوجة ونيران اليهود، فاخذ الرجال الذين معنا يرفعون حطاتهم كي يثبتوا أنهم عربا، المهم أننا وصلنا إلى الفالوجة وعاد الرجال المسلحون ليواصلوا الـمـöـ.ـاومة، ومنهم والدي الذي استشـהـد في معركة “كرتيا”، لحقت به راغبة الذهاب معه، لكن الضابط المصري نهرني فعدت إلى الفالوجة، بقينا بها وبدأنا نبحث بعد ذلك عن والدي وحينما اكتشفنا أنه استشـהـد رجعنا إلى “عراق سويدان”. أما كيف استشـהـد والدي، ففي البداية اشترى والدي بارودته من الفالوجة، وغادر كما قلت لك و مضت ثمانية أيام على ذلك الموقف لم أجده كان الناس يقولون انه مختبئ، وأناس يقولون وقع في الأسر، في تلك الفترة لم تكن الذرة بعد محصودة من الأراضي كانت في تلك السنة تغطي الرجل وكان والدي مستشهدا في حقل الذرة، شاهدته كان(يا ولدي عليه) مصبوغا من الشمس، أتى به أناس من كرتيا ووضعوه في مركز للجيش المصري، كانت الطلقة قد اخترقت قدمه فقط، لم يقبل الجيش المصري وقتها أن نأخذ والدنا أو أن تقترب منه لف في حرام بسيط ودفن مع الشـהــداء في الفالوجه. ووضعت على قبره علامة (نخلة) لظني أننا ما نلبث أن نعود.
بقيت يا ولدي مفاتيح بيوتنا معنا، حيث أننا نحلم بالعـ.ـودة إلى البيوت، في النهاية وصلنا إلى عراق سويدان التي كانت ممتلئة باليهود فحررها المصريون ومكثنا فيها يوما، دخل اليهود علينا في الليل وكان هناك مـöـاومة شديدة من الجيش المصري وأهل البلدة، فخرجنا وجلسنا بين الزرع وبدأ اليهود يقصفون البلدة بالطائرات، أما في منطقة “بيت عفا” فالنساء والعجائز والأطفال لم يهربوا من البلدة فاخذوا أسرى والقوا في الشمس، لكن الجيش المصري حرر هؤلاء الأسرى، وفي اليوم التالي احتل اليهود المنطقة، أما نحن اتجهنا شرقا مشاة، هناك عرب اسمهم عرب أبو جابر، أيضا في هذه المنطقة يوجد آبار مياه، اخذ الرجال يحاولون سقاء أطفالهم العطاش، وفي الليل نمنا في العراء وفي الصباح أكملنا مسيرنا إلى أن وصلنا إلى الدوايمة، ونمنا تحت شجر الزيتون لم تكن الدوايمة قد احتلت بعد، كانوا يقولون لنا مازحين “لو أن كل واحد منكم وضع لغما أمام بيته، لما احتلت اليهود بلدتكم”، ويوم الجمعة وقت الصلاة وبينما كنا نخبز على “صاج” استعرناه والنسوة تتداور عليه لإعداد الخبز، دخل اليهود الدوايمة من الجهة الغربية للبلدة، واحتلوها قبل انقضاء نهار ذلك اليوم، انتشرنا إلى دورا وبتنا بها ليلتين، كل الذين معنا من مختلف المناطق الفلسطينية، خرجنا إلى حلحول ونحن نركض، وحينما وصلنا إلى حلحول اشترينا طحينا وخبزنا لأطفالنا وبعد ذلك مررنا بمدينة الخليل ومن ثم إلى منطقة بيت لحم التي وصلناها مساء، لم يكن لدينا نقودا في تلك الفترة، نامت الناس في ساحة للباصات، ونام الأطفال معنا وفي اليوم التالي ركبنا إلى أريحا وتساعدنا معا حيث انه لم يكن هناك مخيما، نمنا على جانب الإسفلت، كان هناك بيارة نمنا جانبها ومكثنا هناك أربعة أيام.
#حكايا_عبدس